فصل: ثم دخلت سنة خمـس وتسعيـن ومائـة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  الإيقاع بالبرامكة

فـي هـذه السنـة أوقـع الرشيـد بالبرامكـة وقتـل جعفـر بـن يحيـى وقـد اختلـف فـي سبـب ذلك اختلافاً كثيراً والأكثر أن ذلك لإتيانه عباسة أخت الرشيد فإنه زوجه بها ليحل له النظر إِليها وشرط على جعفر أنه لا يقربها فوطئها وحبلت منه وجاءت بغلام وقيل بل الرشيد حبس يحيى بن عبـد اللـه بـن الحسـن بـن الحسيـن بـن علـي بـن أبـي طالـب عند جعفر فأطلقه جعفر وقيل بل إِنه لما عظم أمر البرامكة واشتهر كرمهم وأحبهم الناس والملوك لا تصبر على مثل ذلك فنكبهم لذلك وقيل غير ذلك وكان قتل جعفر بالأنبار مستهل صفر من هذه السنة عند عود الرشيد من الحج وبعد أن قتل جعفر وحمل رأسه أُرسل أن أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه وأخذ ما وجـد للبرامكـة مـن مـال ومتـاع وضيـاع وغيـر ذلـك وأُرسـل إِلـى سائـر البلـاد بقبـض أموالهـم ووكلائهم وسائر أسبابهم وأرسل رأس جعفر وجيفته إِلى بغْداد وأمر بنصب رأسه وقطعة مـن جيفتـه علـى الجسـر ونصـب الأخـرى علـى الجسـر الآخـر ولـم يتعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمـك وولـده وأسبابـه لبراءتـه ممـا دخـل فْيـه أخوه يحيى بن خالد بن برمك وولده وكان عمر جعفر لمـا قتـل سبعـاً وثلاثيـن سنـة وكانـت الـوزارة إِليهم سبع عشرة سنة وفي ذلك يقول الرقاشي وقيل أبو نواس‏:‏ الآن استرحنا واستراحت ركابُنا وأمسك من يجدي ومن كان يحتدي فقل للمطايا قد أمنت من السرى وطي الفيافي فدْفداً بعد فدْفد وقل للمنايا قـد ظفـرت بجعفـر ولـم تظفـري مـن بعـده بمسود وقل للعطايا يا بعد فضل تعطلي وقـل للرزايـا كـل يوم تجددي ودونـك سيفـاً برمكياً مهنداً أصيب بسيف هاشمـي مهنـدِ وقال يحيى بن خالد لما نكب‏:‏ الدنيا دول والمال عازية ولنا بمن قبلنا أسوة وفينا لمن بعدنا عبرة‏.‏

وفـي هـذه السنـة خلـع الـروم ملكتهـم وكانـت امـرأة تدعى رمنى وملكوا تقفور فكتب إِلى الرشيد‏:‏ من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أمّا بعد فإِن الملكة التي كان قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إِليها لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن فإِذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وإلا السيف بيننا وبينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب وكتب على ظهر الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إِلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار الرشيد من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغنم وخرب فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله في كل سنة فأجابه‏.‏

وفـي هـذه السنـة هاجت الفتنة بالشام بين المضرية واليمانية فأرسل الرشيد وأصلح بينهم وفيها ترفـي الفضيـل بـن عيـاض الزاهـد وكـان مولده بسمرقند وانتقل إِلى مكة ومات بها وفيها توفي أبو مسلم معاذ الفرءا النحوي وعنه أخذ الكسائي النحو وولد أيام يزيد بن عبد الملك‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

فيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائـة

فيهـا وقيـل فـي سنـة إِحـدى وثمانيـن توفـي أبـو الحسـن علـي بـن حمـزة بن عبد الله بن فيروز المعروف بالكسائي في الري وهو أحد القراء السبعة وكان إِماماً في النحـو واللغة وقيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وأتى إِلى حمزة بن حبيب الزيات ملتفاً بكساء وقيل بل حج وأحرم بكساء‏.‏

وفيهـا سـار الرشيـد إلـى الـري وأقـام بـه أربعـة أشهـر ثـم رجـع الرشيد إِلى العراق ودخل بغداد في آخر ذي الحجة وأمر بإِحراق جثة جعفرة وكانت مصلوبة على الجسر ولم ينزل ببغداد ومضى من فوره إِلى الرقة فقال في ذلك بعض شعراء الرشيد‏:‏ ما أنخنا حتى ارتحلنا فانف - - رق بين المناخ والارتحال سألونـا عن حالنا إِذ قدمنا فقرأنا وداعهم بالسـؤال فقـال الرشيـد‏:‏ واللـه إِنـي أعلـم أنـه مـا فـي الشـرق ولا فـي الغـرب مدينـة أيمـن ولا أيسر من بغداد وأنها دار مملكة بني العباس ولكنـي أريـد المنـاخ علـى ناحيـة أهـل الشقـاق والنفـاق والبغـض لأئمـة الهدي والحب لشجرة اللعنة بني أمية ولولا ذلك ما فارقت بغداد‏.‏

وفي هذه السنة مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه صاحب أبي حنيفة وكان والده الحسن من أهل قرية حرستا من غوطة دمشق فسار إِلى العراق وأقام بواسط فولد ولده محمد بن الحسن المذكور ونشأ بالكوفة ثم صحب أبا حنيفة وتفقه على أبي يوسـف وصنـف عـدة كتب مثل‏:‏ الجامع الكبير والجامع الصغير في فقه أبي حنيفة وغير ذلك‏.‏

  ثم دخلت سنة تسعيـن ومائـة

فـي هـذه السنـة سـار الرشيـد فـي مائـة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة سوى من لا ديوان له من الأتباع والمتطوعة حتى نزل على هرقلة وحصرها ثلاثين يوماً ثم فتحها فـي شـوال مـن هـذه السنـة وسبـى أهلهـا وبـث عساكـره فـي بلـاد الـروم ففتحـوا الصفصاف وملقونية وخربوا ونهبوا وبعث تقفور بالجزية عن رعيته وعـن رأسـه أيضـاً ورأس ولـده وبطارقته وفي هذه السنة نقض أهل قبرس العهد‏.‏

فغزاهم معتوق بن يحيى وكان عاملاً على سواحل مصر والشام فسبى أهل قبرس وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون وكـان مجوسيـاً وفيهـا توفـي أسـد بـن عمـر وابـن عامـر الكوفـي صاحـب أبـي حنيفـة وفيهـا توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرقة في المجرم وعمره سبعون سنة‏.‏

  ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين ومائة

ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة فيها سار الرشيد من الرقة إلى خراسان فنزل بغداد ورحل عنها إِلى النهروان لخمس خلون من شعبان واستخلف على بغداد ابنه الأمين‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلـاث وتسعيـن ومائـة

فيهـا مـات الفضل بن يحيى بن خالد ابن برمك في الحبس بالرقة في المحرم وعمره خمس وأربعون سنة وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله‏.‏

موت الرشيد في هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين ومائة مات الرشيد لثلاث خلون من جمادى الآخرة وكـان بـه مرض من حين ابتدأ بسفره فاشتدت علته بجرجان في صفر فسار إِلى طوس فمات بهـا فـي التاريـخ المذكـور وكـان قـد سيـر ابنـه المأمون إِلى مرو وحفر الرشيد قبره في موضع الدار التـي كان فيها وأنزل فيه قوماً ختموا فيه القرآن وهو في محفة على شفير القبر وكان يقول في تلك الحالة واسوءتاه من رسول الله ولما دنت منه الوفاة غشي عليه ثم أفاق فرأى المفضل بن الربيع على رأسه فقال‏:‏ يا فضل أحين دنا ما كنت أخشى دنوه رمتني عيونُ الناس من كل جانب فأصبحتُ مرحوماً وكنت محسداً فصبرا على مكروه مر العواقب سأبكي على الوصل الذي كان بيننا وأندبُ أيام السرور الذواهب ثم مات وصلى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح وسرور وحسين وكانت خلافته ثلاثاً وعشريـن سنـة وشهريـن وثمانيـة عشـر يومـاً وكـان عمـره سبعـاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان جميلاً أبيض قد وخطه الشيب وكان له من البنين‏:‏ الأمين من زبيدة والمأمون من أم ولـد اسمهـا مراجـل والقاسـم المؤتمـن والمعتصـم محمـد وصالح وأبو عيسى محمد وأبو يعقوب وأبو العباس محمد وأبو سليمان محمد وأبو علي محمد وأبو محمد وهو اسمه وأبو أحمد محمد كلهم لأمهات أولاد وخمس عشرة بنتاً وكان الرشيد يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم وعهد بالخلافة إِلى الأمين ثم من بعده إِلى المأمون وكتب بينهما عهداً بذلك وجعله في الكعبة وكان قد جعل ابنه القاسم ولقبه المؤتمن ولي العهد بعد المأمون وجعل أمر استقراره وعزله إلى المأمون إِن شاء استمر به وإن شاء عزله‏.‏

  خلافة الأمين

وهو سادسهم ولما توفي الرشيد بويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إِلى أخيه الأمين بوفاة الرشيد مع رجاء الخادم وأرسل معهُ خاتم الخليفة والبردة والقضيب ولما وصل إِلى الأميـن ببغداد أخذت له البيعة ببغداد وتحول إِلى قصر الخلافة ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة ومعهـا خزائن الرشيد فتلقاها ابنها الأمين بالأنبار ومعه جميع وجوه بغداد وفي هذه السنة قتل تقفور ملك الروم في حرب برجان وكان ملكه سبع سنين‏.‏

  ثم دخلت سنة أربـع وتسعيـن ومائـة

وفـي هـذه السنـة اختلـف أهـل حمـص علـى عاملهم إِسحاق بن سليمان فانتقل عنهم إِلى سلمية فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرسي فقاتل أهل حمـص حتـى سألـوا الأمـان فأمنهـم‏.‏

وفـي هـذه السنـة قتـل شقيـق البلخـي الزاهـد فـي غـزوة كولان من بلاد الترك‏.‏

  ثم دخلت سنة خمـس وتسعيـن ومائـة

فيها أبطل الأمين اسم المأمون من الخطبة وكان أبوهما قد عهـد إِلـى الأميـن ثـم من بعده إِلى المأمون حسب ما ذكرناه فخطب لهما إِلى هذه السنة فقطعها الأميـن وخطـب لابنـه موسـى بن الأمين ولقبه الناطق بالحق‏.‏

وكان موسى طفلاً صغيراً ثم جهز الأمين جيشاً لحرب المأمون بخراسان وقدم عليهم علي بن عيسى بن ماهان وكان طاهر بن الحسيـن مقيمـاً فـي الـري مـن جهـة المأمـون ومعـه عسكـر قليـل وسار علي بن عيسى بن ماهان في خمسين ألفاً حتى وصل إِلى الري والتقى العسكران فخلع طاهر بيعـة الأميـن وبايـع المأمـون بالخلافة وقاتل علي بن عيسى بن ماهان قتالاً شديداً فانهزم عسكر الأمين وقتل علي بن عيسى بن ماهان وحمل رأسه إِلى طاهر فأرسل طاهر بالـرأس وبالفتـح إلـى المأمـون وهـو بخراسان‏.‏

وفي هذه السنة توفي أبو نواس الحسن بن هانئ الشاعر وكان عمره تسعاً وخمسين سنة‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة

في هذه السنة سير الأمين جيشاً صحبة أحمد بن مرثد وعبد الله بن حميد بن قحطبة ومع كل واحد عشرون ألف فارس فساروا إِلى حلوان لحرب طاهـر فلما وصلوا إِلى خانقين وقع الاختلاف بينهم فرجعوا من خانقين من غير أن يلقوا طاهراً فتقدم طاهر فنزل حلوان ولحقه هرثمة بجيش من عند المأمون وكتاب يأمره فيه أن يسلم ما حوى من المدن والكور إِلى هرثمة وأن يتوجه طاهر إِلى الأهواز ففعل ذلك وأقام مرثمة بحلوان ولما تحقق المأمون قتل ابن ماهان وانهزام عساكر الأمين أمر أن يخطب لـه بإِمـرة المؤمنيـن وأن يخاطب بأمير المؤمنين وعقد للفضل بن سهل على المشرق من جبل همدان إِلى التبت طولاً ومن بحر فارس إِلى بحر الديلم وجرجان عرضاً ولقبه ذا الرياستين رياسة الحرب والقلم وولىّ الحسـن بـن سهـل ديـوان الخـراج وذلـك كلـه فـي هـذه السنة ثم استولى طاهر على الأهواز ثم على واسـط ثـم علـى المدائـن ونـزل صرصـر

  ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

في هذه السنة حاصر طاهر وهرثمة بالعساكر الذين صحبتهما بغداد وحصروا الأمين ووقع في بغداد النهب والحريق ومنـع طاهـر دخـول الميـرة إِلـى بغداد فغلت بها الأسعار ودام الحصار وشدة الحال إِلى أن انقضت هذه السنة‏.‏

وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة سبـع وتسعيـن ومائـة توفـي إِبراهيـم بـن الأغلـب عامـل إِفريقيـة وقـد تقدم ذكر ولايته في سنة أربـع وثمانيـن ومائـة ولمـا توفـي تولـى علـى إِفريقيـة بعـد ولـده أبـو العبـاس عبـد اللـه بـن إِبراهيم بن الأغلب

  ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

استيلاء طاهر على بغداد وقتل الأمين فـي هـذه السنـة هجـم طاهـر على بغداد بعد قتال شديد ونادى مناديه‏:‏ من لزم بيته فهو آمن‏.‏

وأخـذ الأميـن أمـه وأولـاده إِلـى عنـده بمدينـة المنصـور وتحصـن بهـا وتفـرق عنـه عامـة جنـده وخصيانه وحصره طاهر هناك وأخـذ عليـه الأبـواب ولمـا أشـرف علـى أخـذه طلـب الأميـن الأمان من هرثمة وأن يطلع إِليه فروجع في الطلوع إِلى طاهر فأبى ذلك فلما كانت ليلة الأحد لخمـس بقيـن مـن المحـرم سنـة ثمـان وتسعيـن ومائـة خرج الأمين بعد عشاء الآخرة وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود فأرسل إِليه هرثمة يقول‏:‏ إِني غير مستعد لحفظك وأخشى أن أُغلب عنك فأقـم إلـى الليلـة القابلـة فأبـى الأميـن إلا الخـروج تلـك الليلـة ثـم دعـا الأمين لابنيه وضمهما إليه وقبلهما وبكى ثم جاء راكباً إِلى الشط فوجد حراقة هرثمة فصعد إِليها فاحتصنه هرثمة وضمه إِليه وقبـل يديـه ورجليـه ثـم شـد أصحـاب طاهـر علـى حراقـة هرثمة حتى غرقوها فأخرج الملاح هرثمة مـن المـاء وأما الأمين فلما سقط في الماء شق ثيابه ثم أخذ بعض أصحاب طاهر الأمين وهو عريان عليه سراويل وعمامة فأمر به طاهر فحبس في بيت فلما انتصف الليل أرسل إِليه طاهر قوماً من العجم فقتلوه وأخذوا رأسه ومضوا به إِلى طاهر فنصبه على برج من أبرجة بغداد وأهل بغداد ينظرون إِليه‏.‏

ثم أرسل طاهر رأس الأمين إِلى أخيه المأمون وكتب بالفتح وأرسل البردة والقضيب ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة وصلى بالناس وخطب للمأمون وكان قتل الأمين لست بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وكانت مدة خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسراً وكان عمره ثمانياً وعشريـن سنـة وكـان سبطـاً أنـزع صغيـر العينيـن أقنـى جميـلا طويـلاً وكـان منهمكاً في لذات وشرب الخمر حتى أرسل إلى جميع البلاد فـي طلـب الملهيـن وضمهـم إِليـه وأجـرى عليهـم الـأرزاق واحتجب عن أخوته وأهل بيته وقسم الأموال والجواهر في خواصه وفي الخصيان والنساء وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد وعلى صورة الفيل وعلى صورة العقاب وعلى صورة الحية وعلى صورة الفرس وأنفق في عملها مالا عظيماً وذكر ذلك أبو نواس في شعره فقال‏:‏ سخر اللـه للأميـن مطايـا لـم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سرْنَ بـراً سار في الماء راكباً ليثُ غاب عجـب الناس إِذ رَأوك عليه كيف لو أبصروك فوق العقاب ذات سور ومنسر وجناحي - - ن تشق العباب بعد العباب ولمـا قتل الأمين استوثق الأمر في المشرق والمغرب للمأمون وهو لهم فولى الحسن بن سهل أخا الفضل على كور الجبال والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

فيها ظهر ابن طباطبا العلوي وهو محمد بن إِبراهيم بن إِسماعيـل بـن إِبراهيـم بـن الحسـن بـن الحسـن بـن علـي بـن أبـي طالـب بالكوفة يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وكان القيم بأمره أبو السرايا السري بن منصور وبايعه أهل الكوفة واستوثق له أهلها فأرسل إِليه الحسن بن سهل بن زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف مقاتل فهزمهم ابن طباطبا واستباحهم وكانت الوقعة في جمادى الآخرة من هذه السنة فلما كـان مستهـل رجب مات محمد بن إِبراهيم بن طباطبا فجأة سمه أبو السرايا ليستبد بالأمر لأنه علم أنه لا حكم له مع ابن طباطبا وأقام أبو السرايا غلاماً يقال له ابن زيد من ولد علي بن أبي طالب صورة مكان ابن طباطبا ثم استولى أبو السرايا على البصرة وواسط وجرى بينه وبين عساكر المأمون عدة وقائع يطول شرحها‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفي والد طاهر وهو الحسين بن مصعب بخراسان وأرسل المأمون يعزي ابنه طاهراً بأبيه‏.‏

وفيهـا توفـي عبـد اللـه بـن نميـر الهمدانـي الكوفـي وكنيتـه أبـو هاشـم وهـو والـد محمـد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري‏.‏

  ثم دخلت سنة مائتين

فيها في المحرم هرب أبو السرايا من الكوفة في ثمان مائة فارس بعد أن حاصره هرثمة ودخل هرثمة الكوفة وآمن أهلهـا وسـار أبـو السرايـا إِلـى جلـولاء وتفـرق عنـه أصحابه فظفر به حماد الكندغوش فأمسك أبا السرايا ومن بقي معه وأتى بهم إِلى الحسن بن سهـل وهـو بالنهـروان فقتـل أبـا السرايـا وبعـث برأسـه إِلـى المأمون وكان بين خروج أبي السرايا وقتله وفـي هـذه السنـة ظهـر إِبراهيـم بـن موسى بن عيسى بن جعفر بن محمد العلوي وسار إِلى اليمنٍ وبها إِسحاق بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عاملاً للمأمون فهرب من إِبراهيم بن موسى العلوي المذكور واستولى إِبراهيم على اليمن وكان يسمى الجزار لكثرة من قتل وسبى‏.‏

وفي هذه السنة سار هرثمة من الكوفة بعد فراغه من أمر أبـي السرايـا إلـى جهـة المأمـون ووردت عيه مكاتبات المأمون بالمسير إِلى الشام والحجاز فحملته الدالية وكثرة مناصحته على القدوم على المأمون ومخالفة مرسومه وكان بينه وبين الحسن ابن سهل عداوة فدس الحسن بن سهـل أصحـاب المأمـون بالحـض علـى هرثمـة وكـان يظـن هرثمـة أن قولـه هـو المقبـول في حق الحسن بن سهـل فقـدم علـى المأمـون بمـرو فـي ذي القعـدة هذه السنة أعني سنة مائتين فلما حضر هرثمة بين يدي المأمون ضربه وحبسه ثم دس إليه من قتله في الحبس وقالوا مات‏.‏

وفي هذه السنة أمر المأمون أن يحصى ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً بين ذكر وأنثى‏.‏

وفيها قتلت الروم ملكهم الليون وملك عليهم ميخائيل‏.‏

وفيها توفي معـروف كرخـي الزاهـد صاحب الكرامات وكان أبو معروف نصرانياً‏.‏

  ثم دخلت سنة إِحدى ومائتين

فيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها على النـاس حتـى قطعـوا الطريـق وأخـذوا النساء والصبيان علانية و نهبوا القرى مكابرة وبقي الناس معهم في بلاء عظيم فتجمع أهل بعض المحال ببغداد مع رجل يقال له خالد بن الدريوس وشدوا على من يليهم من الفساق فمنعوهم وطردوهم وقام بعده رجل يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان وردع الفساق واجتمع إِليه جمع كثير من أهل بغداد وعلق مصحفاً في عنقه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقبل الناس منه وكان قيام سهل المذكـور لأربـع خلـون مـن رمضان وقيام ابن الدريوس قبله بنحو ثلاثة أيام‏.‏

وفي هذه السنة جعل المأمون علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده ولقبه الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم وأمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة وكتب بذلك إِلى الآفاق وذلك لليلتيـن خلتـا مـن رمضـان مـن هـذه السنـة وصعـب ذلك على بني العباس وكان أشدهم تحرقاً في ذلـك منصور وإبراهيم ابنا المهدي وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة وكان المتحدث في أخذ البيعة لعلي بن موسى في بغداد عيسى بن محمد بن أبي خالد‏.‏

وفـي هـذه السنـة فـي ذي الحجـة خـاض النـاس ببغـداد فـي البيعـة لإبراهيـم بـن المهـدي بالخلافة وخلع المأمـون لأنهـم نقمـوا علـى المأمـون توليتـه الحسـن بن سهل وجعله الخلافة في آل علي بن أبي طالب وإخراجها عن بني العباس فأظهر العباسيون الخلاف لخمس بقين من ذي الحجة ووضعوا يوم الجمعة رجلاً يقول إنا نريد أن ندعو للمأمون وبعده لإبراهيم بن المهدي ووضعوا آخر يجيبه بأنا لا نرضى إِلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة وبعده لإسحاق بن موسى الهادي وتخلعوا المأمون ففعلوا ذلك فتفرق الناس من الجامع ولم يصلوا الجمعة‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إِفريقية وتولى بعده أخوه زيادة الله بن إِبراهيم‏.‏

وفـي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبة والي طبرستان جبال طبرستان وأنزل شهريار بن شهريار بن شروين عنها وأسر أبا ليلى ملك الديلم‏.‏

  ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين

البيعة لإِبراهيم بن المهدي بايعـه أهـل بغـداد بالخلافـة فـي المحـرم مـن هـذه السنـة أعنـي سنـة اثنتيـن ومائتيـن‏.‏

ولقب المبارك بعد أن خلعوا المأمون وكان المتولي لبيعته المطلب بن عبد الله بن مالك واستولى إِبراهيـم علـى الكوفة وعسكر بالمدائن واستعمل علي الجانب الغربي من بغداد العباس بن موسى الهـادي وعلى الجانب الشرقي إسحاق ابن الهادي ولما تولى إسحاق المذكور ظفر بسهل بن سلامة وأمسكه إسحاق وبعث به إِلى إِبراهيم بن المهدي إِلى المدائن فضربه وحبسه‏.‏

مسير المأمون إلى العراق وقتل ذي الرياستين وفي هذه السنة سار المأمون من مرو إِلى العراق واستخلف على خُرَاسان غسان بن عباد وكـان سبب مسيره ما وقع في العراق من الفتن في البيعة لإبراهيم بن المهدي ولما أتى المأمون سرخـس وثـب أربعة أنفس بالفضل بن سهل فقتلوه في الحمام لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنـة أعنـي سنـة اثنتيـن ومائتيـن وكان عمره ستين سنة وجعل المأمون لمن أمسكهم عشرة آلاف دينار فأمسكهم العباس ابن الهيثم الدينوري وأحضرهم إِلى المأمون فقالوا‏:‏ أنت أمرتنا بقتله فأمر بهم فضربت أعناقهم‏.‏

ورحـل المأمـون طالبـاً العـراق وبلـغ إبراهيـم بـن المهـدي والمطلـب الـذي أخـذ البيعـة لإبراهيـم وغيرهما قدوم المأمون فتمارض المطلب وراح إِلى بغداد وسعى في الباطن في أخذ البيعة للمأمون وخلع إبراهيم وبلغ إِبراهيم ذلك وهو في المدائن فقصد بغداد وأرسـل فـي طلـب المطلب فامتنع عليه فأمر بنهبه فنهبت دور أهله ولم يظفروا بالمطلب وذلـك فـي صفـر مـن وفي هذه السنة عقد المأمون العقد على بوران لنت الحسن بن سهل وزوج المأمون ابنته من علي بن موسى الرضا‏.‏

وفي هذه السنة توفي أبو محمد اليزيدي وهو يحيى بن المبارك بن المغيرة المقرئ صاحب أبي عمرو بن العلاء وإنما قيل له اليزيدي لأنه صحب يزيد بن منصور خال المهدي وكان يعلم ولده‏.‏

  ثم دخلت سنة ثلـاث ومائتيـن

فـي هـذه السنـة فـي صفـر مـات علـي بـن موسـى الرضا بأن أكل عنباً فأكثـر منـه فمـات فجـأة بطـوس وصلـى عليه المأمون ودفنه عند قبر أبيه الرشيد وكان مولد علي بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة ولما مات كتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم بمـوت علـي الرضا وقال‏:‏ إِنما نقمتم علي بسببه وقد مات وكان يقال لعلي المذكور علي الرضا وهو ثامن الأئمـة الاثنـي عشـر على رأي الإمامية وهو علي الرضا بن موسى الكاظم المقدم ذكره في سنة ثلـاث وثمـان مائـة ابـن جعفـر الصـادق بـن محمـد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب وعلي الرضا المذكور هو والد محمد الجواد تاسع الأئمة وسنذكـره إِن شـاء اللـه تعالى‏.‏

وفي هذه السنة أعني سنة ثلاث ومائتين خلع أهل بغـداد إِبراهيـم المهـدي ودعـوا للمأمـون بالخلافة وتخلى عن إِبراهيم صحابه فلما رأى إِبراهيم ذلك فارق مكانه واختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة من كل السنة وأحدق حميد أحد قواد المأمون بدار إِبراهيم بـن المهـدي فلـم يجـده في الدار فلم يزل إِبراهيم متوارياً حتى قدم المأمون إِلى بغداد وكانت أيام ولاية إِبراهيم نحو سنة وأحد عشر شهراً وكسر‏.‏

وفي هذه السنة في آخر ذي الحجة وصل المأمون إِلىٍ همدان وكانت بخراسان وما وراء النهر زلازل عظيمة دامت مقدار سبعين يوماً فخربت البلاد وهلك فيها خلق كثير وكان معظمها ببلخ والجورجان والفارياب والطالقان وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل وتغيـر عقلـه حتـى شـد فـي الحديـد وحبس وكتب قواد العسكر الذين كانوا مع الحسن بذلك إِلى المأمون‏.‏